كانت آخر من خرج من المدرسة، مرت على زميلاتها المتوقفات في انتظار الحافلة ألقت التحية وقالت لن أنتظر مجيء الحافلة سأمشي.......
لم تسمع الرد، ولم تجب عن سؤال ألقته إحداهن والتي من المؤكد رأت المدير يخرج من قسمها اكتفت فقط بالابتسام وقالت إن الأمور بخير.
بعد يوم طويل من العمل وتعب المُحاربة مع تلاميذ همهم الوحيد هو تضيع الوقت في المدرسة عوض الدراسة كان الأفضل لها أن تنتظر الحافلة لكن المشي هو من سيساعدها على التنفيس عن غضبها.لم يكن غضبا بقدر ما كان شعورا بالذل والإهانة.
لقد عا تبها المدير على سوء النتائج وقال بكل بساطة:
- كيف كانت نتائج التلاميذ سيئة لهذا الحد ؟كيف لي أن أواجه غدا مدير التربية عندما يسألني عن هذه النتائج؟ ماذا سأقول؟
يا ابنتي ألم نتفق من قبلُ أن تُقدمي نتائجا مرضية نتائجا لا تفتح العيون العليا علينا.بمثل هذه النتائج سيسألونني ويسألونك وندخل في دوامة من دون داع.
ولكن يا سيدي هذه النتائج هي النتائج الحقيقة لا أستطيع أن أتلاعب فيها أم تريدني أن أكذب؟
ليس كذبا يا ابنتي وإنما النظام التربوي والتعليمي يريد هذا.ضف إلى ذلك لماذا تستعملين هذه الكلمة "الكذب".أنتم شباب اليوم تهولون الأمور وتجعلون منها تبدو وكأنها جرائم ترتكب في حق الإنسانية.
قاطعته بنفاذ صبر لكنها جريمة يا سيدي وأكبر الجرائم لأن وصول الخداع والكذب إلى العلم معناه ضياع هذا الجيل وكل الأجيال القادمة ما دمنا نسير دوما إلى الأسوأ.
أغمض المدير عينيه وهز رأسه وكأنه يحاول بذلك إبعاد فكرة اعترافه بصدق ما قالته هذه المعلمة، فاعترافه بما فعلت سيشجعها على الاستمرار بالعمل بضمير مهني عال وهذا أمر لا يناسبه ولا يناسب مركزه.
فتح المدير عينيه وقال اسمعي يا ابنتي إن الكذب على التلاميذ وجَعْلُهم يظنون أنهم ناجحون هو ما يطلبونه إنه الكذب إذا أردت أن تسميه كذباَ. كلانا يعرف أن الإصلاحات التي جيء بها هدفها هو تحسين المستوى، وهنا قاطعته قائلة وكلانا أيضا يعرف يا سيدي أنها جعلته أسوأ من ذي قبل ولكننا وبسبب استمرارنا في الكذب فإننا بذلك ندعي بأن المستوى تًحسنْ, والتعليم في تطور ونحن بصدد إنتاج جيل يتفجر ثقافة ومتفوق عن كل الأجيال التي سبقته في حين هو عكس ذلك تماما.
سكت قليلا ثم قال اسمعي يا ابنتي لست أنا أو أنت من سيصلح هذا الكون أعلم أن الأمور صارت صعبة ولكن ما علينا إلا التكيف.
ابتسمت هنا رغم الدموع المتحجرة في مآقيها وحدثت نفسها التكيف صرنا كتلك النباتات التي تغيرت عليها الظروف البيئية فما كان منها إلا أن تكيفت مع تلك الظروف وأصبحت أوراقها أشواكا لتحتفظ بالماء وتتأقلم مع الجفاف.
سألت نفسها:كيف لي أن أتكيف مع الكذب والخداع والنفاق؟إنه أمر صعب بل يكاد يكون مستحيل.
وأجابت:ما هو المستحيل؟
كل حياتنا أصبحت مستحيلة ومع ذلك صامتون خانعون راضون بل ونقول نحن ناجحون ومرتاحون. يجب أن أتغير، يجب أن أفعل ذلك.
سأبدأ بالحياة الاجتماعية أولا ثم الحياة العملية.....
سأتوقف عن الصراحة، ماذا استفدت منها؟وسأجامل الجميع لأكسبهم لصفي لساني يتقن المداهنة وفن الكلام إذا أراد ذلك كُوني صريحة مع نفسك واعترفي هاتفك لا يرن إلا نادرا وكأنك لست موجودة.ثم لا أحد يزورك إلا من تعود على صراحتك أو أراد استشارتك في أمر مصيري لأنه على علم بأنه لن تقول إلا الحقيقة ولن تنصفيه لأنه صديق لك.
أما العمل فلن أتذمر بعد اليوم من الباطل لست وحدي من ترى الباطل الكل يراه ولكن أنا فقط من تنسحب من لسانها كل مرة وتنتفض حتى اتهمت بالتمرد والعصيان.
سأكذب على الناس وعلى التلاميذ وعلى أهلهم وعلى العيون العليا مادام الكذب هو المخرج والحقيقة ستدعني دوما في نفق مظلم أتخبط فيه وحدي ولا أحد ينصفني.لن أكون البطل في الحقيقة بل سأكون مجبرة على الكذب فهذا ما تطلبه عقول البشر في هذا الزمان المقلوب.